عبد الله العروي يرصد تاريخ تقبيل اليد في المغرب

عبد الله العروي يرصد تاريخ تقبيل اليد في المغرب

 

تقديم:

اشتد النقاش هذه الأيام، ومن مختلف المرجعيات السياسية والفكرية والدينية والإيديولوجية، وعلى مختلف المنابر الإعلامية؛ حول البروتوكول الملكي، أو ما يعرف بالطقوس المخزنية، من تقبيل لليد، وانحناء وركوع ولباس ومعمار ووضعيات ورموز... وقد خصت جريدة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ملفها الأسبوعي ليومي 26 و27 من ماي الأخير لهذا الموضوع، عرضت فيه آراء قيادات سياسية وحزبية لها قيمتها النضالية والرمزية في الصف اليساري الحداثي والديمقراطي. وهي آراء تصب جميعها في ضرورة إعادة النظر في تلك الطقوس الحاطة من الكرامة الإنسانية التي لا تتماشى وعصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، باستثناء رأي "شاذ" لأحد الكتاب الصحافيين بالجريدة الذي سار عكس الاتجاه، واعتبر تلك الطقوس مجرد "أداة لماركوتينغ تواصلي ورمزي عنوانا عن ثقافة أمة"، بل أكثر من هذا عدها بمثابة "ماركة ثقافية مغربية"، وهو ما يحتاج إلى نقاش واسع ورزين في الموضوع، سنعود إليه بتفصيل في مقام آخر، غير أن هذا لا يمنعنا من المساهمة في هذا النقاش الحيوي الذي انطلق- وينبغي ألا يتوقف إلا برفع هذه الطقوس المخزنية العتيقة والمذلة بقرار ملكي صريح- وإن موقع ترجمة نص مركز وكثيف وعميق، وفي صميم الموضوع؛ لا يستقيم لكل خائض في هذه الطقوس أن تفوته فرصة الاطلاع عليه.

هذا النص مأخوذ من كتاب الأستاذ عبد الله العروي: المغرب والحسن الثاني، شهادة، وفي ملحقه الأول، ويحمل عنوان: "تقبيل اليد". وهو لأحد الأسماء الوازنة في الفكر والتاريخ المغربيين المعاصرين، كتبه في سياق شهادته الثمينة حول المغرب والحسن الثاني، ورصد فيه ما أطلق عليه "الخصوصيات المغربية"، ومن ضمنها سلوك تقبيل اليد في المسار التاريخي العربي، وكيف استقر بالمغرب، وانتقل إلى دواليب الحكم وسار جزءا من ممارسة السلطة على عهد الراحل الحسن الثاني، مستحضرين في هذا المقام انتظارات المواطنين الأحرار في ظل عهد العاهل محمد السادس، والقيم الحداثية والديمقراطية التي طالما بشَّر بها منذ اعتلاء عرش المملكة، وما أبان عنه من مرونة وتسامح داليين في ممارسة هذه العادة المحرجة في ظل الدستور الجديد، وأفاقه الواعدة...

النص المترجم:

إن تقبيل اليد ليس بالسلوك العربي، مادام غير معروف في المشرق، حتى في الأردن، حيث السلالة المالكة منحدرة من أصل هاشمي، وبالتالي من الدوحة النبوية الشريفة ؛ ولا هو بالسلوك الإسلامي، ما دام يمكن تأويله كشكل من أشكال الشرك. وهو ما يُبَرَّرُ تحديداً، بما أحال عليه القرآن من بيعة للرسول، دونما تدقيق في شكلها؛ وهذا تبرير قابل للدحض.

والأكثر احتمالا أن تقبيل اليد سلوك فارسي، ومن ثم سلوك وثني، تسرب زمن العباسيين ، وبرّره لاهوتيو الشيعة الإمامة : فما يُبجَّل في شخص الخليفة إذن، ليس العاهل أو الزعيم السياسي، إنما الإمام ، بما هو وريث للسر ؛ بمعنى وريثا لكل الامتيازات المنسوبة لعلي بن أبي طالب، ابن عم الرسول وصهره. وهو التبرير الذي يرفضه السُّنيون ، بطبيعة الحال.

يمكن إذن، أن نُخمن بأن تقبيل اليد قد وُجد على الدوام في شمال إفريقيا ( إذ كان معمولا به في تونس إلى حدود سنة 1942، حيث ألغاه صراحةً، الباي منصف المعروف بنزعته الوطنية)؛ بسبب ما يتضمنه القول ب"النسب الشريف" من بقايا شبه شيعية نرصد آثاراً منها عند الأدارسة وخَلَفِهم، وعند السعديين، وكذا، عند كثير من زعماء الثورات "الهوجاء"، من بُودمِعَة إلى بوحمارة . وهكذا، أثر عامل "النسب الشريف"، بشكل أو بآخر، في ظاهرة الأولياء، وحركة الزوايا بوجه عام.

وقد اكتسحت هذه الحركة، وعلى امتداد القرون الأخيرة، مجموع الوسط الحضري المتعلم، ونجحت الإيديولوجيا شبه الشيعية ، التي لم يتم التصدي لها بشكل صريح، في أن تصبح جزءا لا يتجزأ من الإيمان الشعبي، بسبب الإهمال المبكر جدا الذي طال المواد التاريخية واللاهوتية في "المدارس" المغربية؛ فغَدا "الإسلام المغربي" إسلامَ أضرحة بشكل رسمي؛ مُؤَسّسٍ على مفهوم البركة، وظهر تقبيل اليد كنتيجة طبيعية له، وفعل يتم القيام به، بشكل آلي، في كل المناسبات، وعند كل شرائح الشعب: الطفل يقبل يد والده، والتلميذ يقبل يد أستاذه، والمتدرب يقبل يد مُعلمه، والمريد يقبل يد شيخه، وهكذا إلى قمة الهرم الاجتماعي.

ويذهب علماء الإناسة أبعد، فيرون في تقبيل اليد مجرد خصوصية لظاهرة يعترف بها الجميع، وفي كل الأحقاب، تحتفظ بالوظيفة نفسها في كل مكان، ووحده الشكل المتغير بتغير الأمكنة، يستوجب تفسيراً، فهنا تقبل اليد، وهناك تقبل الرجل، وهنالك تلمس الثياب، وهكذا .

يبقى أن لتقبيل اليد المَلكِية في مغرب اليوم، وفي عصر التلفاز، وظيفة سياسية بالأساس، مهمته تمييزية، تُبرز للملأ مدى قرب هذه الشخصية أو تلك من السلطة. لذلك، فهو مرغوب فيه، بل ومطالب به أكثر منه مفروضا. وللسبب نفسه، فهو ليس موحدا: قد تكون قُبلة واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث، حسب الرسالة المراد ترسيخها في ذهن المتفرجين، الحاضرين منهم والمشاهدين، وبالتالي فمن الصعب، في ظل هذه الشروط، إعادة إنتاج موقف الباي منصف،(أي إلغاء تقبيل اليد).

إن ارتباط تقبيل اليد بمفاهيم البيعة والإمامة والنسب الشريف والبركة ، تجعل منه سلوكاً غريباً، ما بقيت تلك المفاهيم غامضة وملتبسة، وضمن دائرة المسكوت عنه.

ترجمة وتقديم ادريس جبري / باحث في البلاغة وتحليل الخطاب